فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}.
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ}: فيه قراءتان:
المشهور الرفع، وفيه أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ قولان:
الأول: أنه قوله: {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه.
قال أبو عليٍّ: والأشبه أن يكون {الَّذِي} وصفًا؛ ليكون لفظ القرآن نصًّا في الأمر بصوم شهر رمضان؛ لأنَّك إن جعلته خبرًا، لم يكن شهر رمضان منصوصًا على صومه بهذا اللفظ، وإنما يكون مكبرًا عنه بإنزال القرآن الكريم فيه، وإذا جعلنا {الَّذِي} وصفًا، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر؛ كقولك: شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ.
والقول الثاني: أنه قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وليس كذلك؛ لأن قوله: {الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ؛ بخلاف شهر رمضان، فإن قيل: أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل: تكرار المبتدأ بلفظه؛ كقوله: الخفيف:
لاَ أَرَى المضوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْء

وهذا الإعراب- أعني كون {شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأً- على قولنا: إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان، أمَّا إذا قلنا: إنها نفس رمضان، ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ.
فقدَّره الفرَّاء: ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وقدَّره الخفش: المكتوب شهر رمضان.
والثاني: أن يكون بدلًا من قوله: {الصِّيَامُ}، أي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ، وهذا الوجه، وإن كان ذهب إليه الكسائيٌّ بعيدٌ جدًّا؛ لوجهين:
أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه.
والثاني: أنَّه لا يكون إذا ذاك إلاَّ من بدل الإشمال، وهو عكس بدل الاشتمال، لأنَّ بدل الاشتمال غالبًا بالمصادر؛ كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} [البقرة: 217]، وقول الأعشى: الطويل:
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ** تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ

وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ، تقديره: صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وحينئذٍ: يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ، وهما لعين واحدة، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله: {أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} في قراءة من رَفَعَ أيَّامً، وهي قراءة عبد الله، وفيه بُعْدٌ.
والقراءة الثانية: النصْبُ، وفيه أوجهٌ:
أجودها: النصبُ بإضمار فعلٍ، أي: صُوموا شَهْر رَمَضَانَ.
الثاني: وذكره الأخفشُ والرُّمَّانِيُّ: أن يكون بدلًا من قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان، إلا أن فيه بُعْدًا من حيث كثرةُ الفَصْلِ.
الثالث: نَصْبُه على الإغراء؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ.
الرابع: أن ينتصبَ بقوله: {وأنْ تَصُومُوا}؛ حكاه ابن عطية، وجوَّزه الزمخشريُّ، واعترض عليه؛ بأن قال: فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم: «تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ».
فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير، وهو غَيْرُ جائزٍ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ، وإيقاع الفضْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ.
وغلَّطَهُما أبو حيان: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ، لأنَّ الخبر، وهو {خَيْرٌ} أَجْنَبِيٌّ من الموصول، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول، إلاَّ بعد تمام صلتِهِ، و{شَهْر رَمَضَانَ} على رأيهم من تمام صلة {أَنْ}، فامتنع ما قالوه، وليس لقائل أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف، وحرف الجَرِّ، فإنه يُغْتضفَرُ فيه ذلك عند بعضهم؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ.
الخامس: أنه منصوبٌ ب {تَعْلَمُونَ}؛ على حذف مضافٍ، تقديره: تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب.
وأدغم أبو عمرو رَاءَ {شَهْر} في راء {رَمَضَان}، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقول ابن عطيَّة: وذلك لا تقتضيه الأصول غير مقبولٍ منه؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل، لا يُعارضُ بالقِياس.
والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان:
أشهرهما: أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافيًا إلى أن يَسْتَسْرَّ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات، والصوم، والحجِّ، وقضاء الدُّيُون، وغيرها.
والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة، يُقَالُ: شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْرًا: إذا أظهره، ويسمَّى الشَّهْرُ: شَهْرًا، لشُهْرَة أمره، والشُّهْرَة: ظهورُ الشيءِ، وسمي الهلال شهرًا؛ لشُهْرته.
والثاني: قاله الزَّجَّاج: أنه اسمٌ للهلال نفسه؛ قال: الكامل:
.......... ** وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ

ذلك؛ لبيانه؛ قال ذو الرُّمَّةِ: الطويل:
......... ** يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ

يقولون: رأيتُ الشهْرَ، أي هِلاَلَهُ، ثم أُطلِقَ على الزمان؛ لطلوعه فيه، ويقال: أشْهَرْنَا، أي: أتى علينا شَهْرٌ، قال الفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعْلًا إلاَّ هذا.

.فصل: في معنى الشهر:

قال الثَّعلبي: يُقَالُ: شَهَرَ الهِلاَلُ، إذَا طَلَعَ، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ، وفي الكثرة على شُهُورٍ، وهما مقيسان.
ورَمَضَانُ: عَلَمٌ لهذا الشَّهر المْصُوص، وهو علم جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ:
أحدها: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء- وهي شِدَّةُ الحَرِّ- فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم: إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع، أو مقاساة شدَّته؛ كما سمَّوه تابعًا؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم، أي: يزعجهم لشدَّته عليهم، وقال- عليه الصَّلاة والسَّلام: «صَلاَةُ الأَوَّابِينَ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ». أخرجه مسلم، ورَمَضَ الفِصَالُ، ذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ.
يقال: إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ، فسُمِّيَ به؛ كَرَبِيع؛ لموافقته الربيعَ، وجُمَادى؛ لموافقته جُمُودَ الماء، وقيل: لأنه يُرْمِضُ الذنوب، أي: يَحْرِقُها، بمعنى يَمْحُها.
روي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ».
وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة، وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين، ليرقَّ يقال: نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ.
وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ؛ ليقضوا منها أوطارهم؛ قاله الأزهريُّ.
قال الجوهريُّ: وَرَمَضَانُ: يُجمع على رَمَضَانَات وأَرْمِضَاء وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقًا، أنشد المُفَضَّل: الطويل:
- وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى ** وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا

وقال الزمخشري: الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ.
قال أبو حيَّان: وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، فإن فَعَلاَنًا ليس مصدر فَعِلَ اللازم، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذًا، وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمِض- بكسر الميم- وهو مَطَرٌ يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها.
وقال مجاهدٌ: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول لقائل: شَهْرُ رَمَضَانَ، أي: شَهْرُ اللَّهِ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ، وذَهَبَ رَمَضَانُ، ولَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى».
والقرآن في الأًل مصدر قَرَأْتُ، ثم صار علمًا لما بين الدَّفَّتَيْنِ؛ ويُدلُّ على كونه مصدرًا في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان رضي الله عنهما: البسيط:
ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ** يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وقُرْآنا

وقيل: القرآن من المصادر، مثل: الرُّجْحَان، والنُّقْصَان، والخُسْرَان، والغُفْرَان، وهو من قرأ بالهمزة، أي: جمع؛ لأنه يجمع السُّور، والآيات، والحكم، والمواعظ، والجمهورُ على همزه، وقرأ ابن كثيرٍ من غير همزٍ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين:
أظهرهما: أنه من باب النَّقل؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها، ثم يحذفها في نحو: {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1]، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ، وجمعًا بين اللُّغَتَيْنِ.
والثاني: أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين، فكون وزنه على هذا فُعَالًا.
وعلى الأول فُعْلاَنًا وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر، والآياتِ، والحِكَمِ، والمواعِظِ.
وقال الفَرَّاء: أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضًا على ما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وأما قول من قال: إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض، أي: جمعته، فغلطٌ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان.
وروى الواحدُّ في البسيط عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم، أنَّ الشافعيَّ رضي الله عنه كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ، ولَيْسَ بمهموزٍ، ولم يُؤْخَض من قَرَأْتُ، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله؛ مثل التوراة والإنجيل، قال: ويهمز قراءة، ولا يهمزة القرآن، كما يقول: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [الإسرء: 45] قال الواحدُّ رحمه الله: وقول الشافعيِّ- رضى الله عنه- أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء، وهو الجمع، أي: جمعته، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة، قالا: إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع.
قال عَمْرُ بْنُ كُلْثُومٍ:
-....... ** هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا

أي: لم تجمع في رحمها ولدًا، ومن هذا الأصل: قُرْءُ المرأة، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها، فسُمِّي القرآن قُرْآنًا، لأنه يجمع السُّور وينظمها.
وقال قُطْرُب: سُمِّيَ قرآنًا؛ لأنَّ القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذًا من قول العرب: ما قرأ النَّاقة سلى قطُّ، أي: ما رَمَتْ بِوَلَدٍ، وما أسْقَطَتْ ولدًا قَطُّ، وما طَرَحَتْ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءًا بهذا التَّأويل، فالقرآن يلفظه القارئ من فيه، ويلقيه، فسُمِّيَ قُرْآنًا.
و{القُرآنُ} مفعول لم يُسَمَّ فاعله؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآنًا؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ، وللمكْتُوب كِتَابٌ.
واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف؛ حتَّى جعلوه اسمًا لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ- رض الله عنه.
ومعنى {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن}، أي: ظَرْفٌ لإنزاله.
قيل: نَزَلَتْ صُحُف غبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين.
قوله: {هُدًى} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعامل فيه {أُنزِلَ} وهدًى مصدرٌ، فإمَّا أن يكون على حذفٍ مضافٍ، أي: ذا هدى، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ، أي: هادِيًا، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً.
قوله: {لِلنَّاسِ} يحوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب {هدًى} على قولنا بأنه وقى موقع هَادٍ، أي: هاديًا للناس.
والثاني: أن يتلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله، ويكون محلُّه النصَّب على والثاني: أن يتعلَّ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للنكرة قبله، ويكون محلُّ النَّصب على الصفة، ولا يجوز أن يكون {هُدَى} خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هُوَ هدًى؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ، وهو: {بَيَّنَاتٍ}؛ و{بَيِّنَاتٍ} عطفٌ على الحال، فهي حالٌ أيضًا وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هدًى وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة.
قوله: {مِّنَ الهدى والفرقان} هذا الجارُّ والمجرورُ صفة لقوله: {هدًى وبَيِّناتٍ} فمحلُّه النصب، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كون القرآن هدًى وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان، ولم يأت مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ فيطالب قالعجزُ الصَّدْرَح لأنّ فيه مزيد معنى لازم للبيان، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل، ومتى كان الشيءُ جَلِيًّا واضحًا، حصل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان، وقال بعضهم: المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها.
وقال ابن عطية: اللامُ في الهُدَى للعهد، والمرادُ الأوَّلُ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظها معرَّفًا بأل، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله: {إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15- 16]، ومن هنا قال ابن عبَّاس: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه، لكان كلامًا صحيحًا؟
قال أبو حيان: وما قاله ابن عطية لا يتأتّضى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن {هدًى} منصوبٌ على الحال، والحال وصفٌ في ذي الحال، وعطف عليه {وبيّنات}، فلا يخلو قول: {مِنَ الهُدَى}- المراد به الهدى الأول- من أن يكون صفةً لقوله: {هُدَى} أو لقوله: {وَبَيِّنَاتِ} أو لهما، أو متعلِّقًا بلفظ {بَيِّنَاتِ}، لا جايزٌ أن يكون صفةً ل {هدًى}؛ لأنه من حيث هو وصفٌ، لزم أن يكون بعضًا، ومن حيث هو الأول، لزم أن يكون إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضًا كُلًا بالنسبة لماهيَّته، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ {وَبَيِّنَاتٍ} معطوفٌ على {هدًى} و{هدًى} حال، والمعطوف على الحال حالٌ، والحالان وصفٌ في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت {بَيِّنَات} بقوله: {مِنَ الهُدَى} خصصناها به، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله: {هدًى} {وبَيِّنَاتٍ} معًا، ومن حيث جعلت {مِنَ الهُدَى} صفةً ل {بَيِّنَاتٍ}، وتوقَّف تخصيص {بَيِّنَاتٍ} على هُدَى، فلزم أن ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محالٌ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط، أو بينات فقط.
ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ {بَيِّنَاتٍ}؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتقلَّق به؛ فهو كالوصفِ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضًا: فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرًا، فقلت: منه- أي: من ذلك الهُدَى- لم يصحَّ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين، حتى يكون هُدى وبينات بعضهًا منهما.
قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} نقل الواحدِيُّ في البسيط عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا: الفاء في قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ} زائدةٌ قالا: وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف، أو للجزاء، أو تكون زائدةً، وليس لكونها للعطف، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
قال: وأقول: يمكن أن تكون الفاء هاهنا للجزاء؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصًّا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سار الشُّهور فيها، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم الختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة، فأنتم أيضًا خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة، وأما قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] الفاء فيه غير زائدة أيضًا، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ؛ كأنه قيل: لمَّا فرُّوا من الموت، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر.
ومَنْ فيها الوجهان: أعني كونها موصولةً، أو شرطيةً، وهو الأظهر، و{مِنْكُم} في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في {شَهِدَ} فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائِنًا منكم، وقال أبو البقاء: {مِنْكُم} حالٌ من الفاعل، وهي متعلقةٌ ب {شَهِدَ}، قال أبو حيان: فَنَاقَضَ؛ لأنَّ جَعْلَها حالًا يوجب أن يكون عاملها محذوفًا، وجعلها متعلِّقة ب {شَهِدَ} يوجب ألاَّ تكون حالًا ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّ المعنويُّ، فإنَّ كائنًا الذي هو عامل في قوله: {مِنْكُم} هو متلِّقٌ ب {شَهِدَ} وهو الحالُ حقيقةً.
وفي نَصْبِ {الشَّهْرِ} قولان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف، والمراد بشَهِدَ: حَضَر، ويكون مفعولُ {شَهِدَ} محذوفًا، تقديره: فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ.
والثاني: أنه منصوب على المفعول به، وهو على حذف مضافٍ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيح أنَّ تقديره: دُخُولَ الشَّهْرِ، وقال بعضهم: هِلاَلَ الشَّهْرِ قال شهاب الدين: وهذا ضعيفٌ؛ لوجهين:
أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهِلاَلَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلاَلَ.
ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود: الحضُور.
والثاني: أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ، وليس كذلك، قال: ويجاب بأن يقال: نعم، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين، فإن خرج بعضهم بدليل، فيبقى الباقي على العموم.
قال الزمخشريُّ: الشَّهْرَ منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاء في {فَلْيَصُمْهُ} ولا يكون مفعولًا به؛ كقولك: شَهِدْتُ الجُمُعَةَ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ وفي قوله الهاء منصوبةٌ على الظرف نظرٌ لا يخفى؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ بفي، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه، فينصب نصب المفعول به، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضًا على الظرف.
والفاء في قوله: {فَلْيَصَمْهُ}: إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في مَنْ.
واللام لام الأمر، وقرأ الجمهور بسكونها، وإن كان أصلها الكسر، وإنما سكَّنوها؛ تشبيهًا لها مع الواو والفاء بكَتِف؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل.
وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن.
وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء، فقال: مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام؛ لفتحةِ الياء بعدها، قال: فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ: نحو: لِيُنْذِرْ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالدًا.
والألف واللام في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} للعهد، إذ لو أتى بدله بضميرٍ، فقال: فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ لصَحَّ غلا أنَّه أبرزه ظاهرًا؛ تنويهًا به.